سورة الإنسان - تفسير تفسير النسفي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الإنسان)


        


{هَلْ أتى} قد مضى {عَلَى الإنسان} آدم عليه السلام {حِينٌ مّنَ الدهر} أربعون سنة مصوراً قبل نفخ الروح فيه {لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً} لم يذكر اسمه ولم يدر ما يراد به لأنه كان طيناً يمر به الزمان ولو غير موجود لم يوصف بأنه قد أتى عليه حين من الدهر. ومحل {لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً} النصب على الحال من الإنسان أي أتى عليه حين من الدهر غير مذكور {إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان} أي ولد آدم، وقيل الأول ولد آدم أيضاً و{حِينٌ مِّنَ الدهر} على هذا مدة لبثه في بطن أمه إلى أن صار شيئاً مذكوراً بين الناس {مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} نعت أو بدل منها أي من نطفة قد امتزج فيها الماآن. ومشجه ومزجه بمعنى و{نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} كبرمة أعشار فهو لفظ مفرد غير جمع ولذا وقع صفة للمفرد {نَّبْتَلِيهِ} حال أي خلقناه مبتلين أي مريدين ابتلاءه بالأمر والنهي له {فجعلناه سَمِيعاً بَصِيراً} ذا سمع وبصر.
{إِنَّا هديناه السبيل} بيّنا له طريق الهدى بأدلة العقل والسمع {إِمَّا شَاكِراً} مؤمناً {وَإِمَّا كَفُوراً} كافراً حالان من الهاء في {هديناه} أي إن شكر وكفر فقد هديناه السبيل في الحالين أو من السبيل أي عرّفناه السبيل إما سبيلاً شاكراً وأما سبيلاً كفوراً. ووصف السبيل بالشكر والكفر مجاز. ولما ذكر الفريقين أتبعهما ما أعد لهما فقال: {إِنَّا أَعْتَدْنَا للكافرين سلاسلا} جمع سلسلة بغير تنوين: حفص ومكي وأبو عمرو وحمزة، وبه ليناسب {أغلالا وَسَعِيراً} إذ يجوز صرف غير المنصرف للتناسب: غيرهم {وأغلالا} جمع غُلٍّ {وَسَعِيراً} ناراً موقدة. وقال: {إِنَّ الأبرار} جمع بر أو بار كرب وأرباب وشاهد وأشهاد وهم الصادقون في الإيمان أو الذين لا يؤذون الذرّ ولا يضمرون الشر {يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ} خمر فنفس الخمر تسمى كأساً. وقيل: الكأس الزجاجة إذا كان فيها خمر {كَانَ مِزَاجُهَا} ما تمزج به {كافورا} ماء كافور وهو اسم عين في الجنة ماؤها في بياض الكافور ورائحته وبرده {عَيْناً} بدل منه {يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله} أي منها أو الباء زائدة أو هو محمول على المعنى أي يلتذ بها أو يروي بها. وإنما قال أولاً بحرف (من) وثانياً بحرف الباء لأن الكأس مبتدأ شربهم وأول غايته، وأما العين فيها يمزجون شرابهم فكأنه قيل: يشرب عباد الله بها الخمر {يُفَجّرُونَهَا} يجرونها حيث شاءوا من منازلهم {تَفْجِيرًا} سهلاً لا يمتنع عليهم.
{يُوفُونَ بالنذر} بما أوجبوا على أنفسهم، وهو جواب (من) عسى أن يقول: ما لهم يرزقون ذلك؟ والوفاء بالنذر مبالغة في وصفهم بالتوفر على أداء الواجبات لأن من وفّى بما أوجبه على نفسه لوجه الله كان بما أوجبه الله عليه أوفى {ويخافون يَوْماً كَانَ شَرُّهُ} شدائده {مُسْتَطِيراً} منتشراً من استطار الفجر {وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبِّهِ} أي حب الطعام من الاشتهاء والحاجة إليه أو على حب الله {مِسْكِيناً} فقيراً عاجزاً عن الاكتساب {وَيَتِيماً} صغيراً لا أب له {وَأَسِيراً} مأسوراً مملوكاً أو غيره.
ثم عللوا إطعامهم فقالوا:
{إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله} أي لطلب ثوابه أو هو بيان من الله عز وجل عما في ضمائرهم، لأن الله تعالى علمه منهم فأثنى عليهم وإن لم يقولوا شيئاً {لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً} هدية على ذلك {وَلاَ شُكُوراً} ثناء وهو مصدر كالشكر {إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا} أي إنا لا نريد منكم المكافأة لخوف عقاب الله على طلب المكافأة بالصدقة، أو إنا نخاف من ربنا فنتصدق لوجهه حتى نأمن من ذلك الخوف {يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً} وصف اليوم بصفة أهله من الأشقياء نحو: نهارك صائم. والقمطرير الشديد العبوس الذي يجمع ما بين عينيه.
{فوقاهم الله شَرَّ ذَلِكَ اليوم} صانهم من شدائده {ولقاهم} أعطاهم بدل عبوس الفجار {نَضْرَةً} حسناً في الوجوه {وَسُرُوراً} فرحاً في القلوب {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ} بصبرهم على الإيثار. نزلت في علي وفاطمة وفضة جارية لهما، لما مرض الحسن والحسين رضي الله عنهما نذروا صوم ثلاثة أيام فاستقرض علي رضي الله عنه من يهودي ثلاثة أصوع من الشعير، فطحنت فاطمة رضي الله عنها كل يوم صاعاً وخبزت فآثروا بذلك ثلاثة عشايا على أنفسهم مسكيناً ويتيماً وأسيراً ولم يذوقوا إلا الماء في وقت الإفطار. {جَنَّةً} بستاناً فيه مأكل هنيء {وَحَرِيراً} ملبساً بهياً {مُتَّكِئِينَ} حال من (هم) في {جزاهم} {فِيهَا} في الجنة {على الأرآئك} الأسرة جمع الأريكة {لاَ يَرَوْنَ} حال من الضمير المرفوع في {مُتَّكِئِينَ} غير رائين {فِيهَا} في الجنة {شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً} لأنه لا شمس فيها ولا زمهرير فظلها دائم وهواؤها معتدل، لا حر شمس يحمي ولا شدة برد تؤذي. وفي الحديث: «هواء الجنة سجسج لا حر ولا قرّ» فالزمهرير البرد الشديد. وقيل: القمر أي الجنة مضيئة لا يحتاج فيها إلى شمس وقمر {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظلالها} قريبة منهم ظلال أشجارها عطفت على جنة أي وجنة أخرى دانية عليهم ظلالها كأنهم وعدوا بجنتين لأنهم وصفوا بالخوف بقوله: {إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبّنَا} {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] {وَذُلِّلَتْ} سخرت للقائم والقاعد والمتكئ وهو حال من {دَانِيَةٌ} أي تدنو ظلالها عليهم في حال تذليل قطوفها عليهم، أو معطوفة عليها أي ودانية عليهم ظلالها ومذللة {قُطُوفُهَا} ثمارها جمع قطف.
{تَذْلِيلاً * وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِئَانِيَةٍ مّن فِضَّةٍ} أي يدير عليهم خدمهم كئوس الشراب. والآنية جمع إناء وهو وعاء الماء {وَأَكْوابٍ} أي من فضة جمع كوب وهو إبريق لا عروة له {كَانَتْ قَوَارِيرَاْ} (كان) تامة أي كونت فكانت قوارير بتكوين الله نصب على الحال {قَوَارِيرَاْ مِن فِضَّةٍ} أي مخلوقة من فضة فهي جامعة لبياض الفضة وحسنها وصفاء القوارير وشفيفها حيث يرى ما فيها من الشراب من خارجها. قال ابن عباس رضي الله عنهما: قوارير كل أرض من تربتها وأرض الجنة فضة. قرأ نافع والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر بالتنوين فيهما. وحمزة وابن عامر وأبو عمرو وحفص بغير تنوين فيهما. وابن كثير بتنوين الأول والتنوين في الأول لتناسب الآي المتقدمة والمتأخرة، وفي الثاني لإتباعه الأول. والوقف على الأول قد قيل ولا يوثق به لأن الثاني بدل من الأول {قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً} صفة ل {قَوارِيرَ مِن فِضَّةٍ} أي أهل الجنة قدروها على أشكال مخصوصة فجاءت كما قدروها تكرمة لهم، أو السقاة جعلوها على قدر ريّ شاربها فهي ألذ لهم وأخف عليهم. وعن مجاهد: لا تفيض ولا تغيض.
{وَيُسْقَوْنَ} أي الأبرار {فِيهَا} في الجنة {كَأْساً} خمراً {كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً * عَيْناً} بدل من {زَنجَبِيلاً} {فِيهَا} في الجنة {تسمى} تلك العين {سَلْسَبِيلاً} سميت العين زنجبيلاً لطعم الزنجبيل فيها، والعرب تستلذه وتستطيبه. وسلسبيلاً لسلاسة انحدارها وسهولة مساغها. قال أبو عبيدة: ماء سلسبيل أي عذب طيب.


{وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ ولدان} غلمان ينشئهم الله لخدمة المؤمنين، أو ولدان الكفرة يجعلهم الله تعالى خدماً لأهل الجنة {مُّخَلَّدُونَ} لا يموتون {إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ} لحسنهم وصفاء ألوانهم وانبثاثهم في مجالسهم {لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً} وتخصيص المنثور لأنه أزين في النظر من المنظوم {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ} ظرف أي في الجنة وليس ل {رَأَيْت} مفعول ظاهر ولا مقدر ليشيع في كل مرئي تقديره وإذا اكتسبت الرؤية في الجنة {رَأَيْتَ نَعِيماً} كثيراً {وَمُلْكاً كَبِيراً} واسعاً. يروى أن أدنى أهل الجنة منزلة ينظر في ملكه مسيرة ألف عام يرى أقصاه كما يرى أدناه. وقيل: ملك لا يعقبه هلك، أو لهم فيها ما يشاؤون أو تسلم عليهم الملائكة ويستأذنون في الدخول عليهم {عاليهم} بالنصب على أنه حال من الضمير في {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ} أي يطوف عليهم ولدان عالياً للمطوف عليهم ثياب. وبالسكون: مدني وحمزة على أنه مبتدأ خبره {ثِيَابُ سُندُسٍ} أي ما يعلوهم من ملابسهم ثياب سندس رقيق الديباج.
{خُضْرٌ} جمع أخضر {وَإِسْتَبْرَقٌ} غليظ يرفعهما حملاً على الثياب: نافع وحفص، وبجرهما: حمزة وعلي حملاً على {سُندُسٍ} وبرفع الأول وجر الثاني أو عكسه: غيرهم {وَحُلُّواْ} عطف على {وَيَطُوفُ} {أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ} وفي سورة (الملائكة): {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً} [الحج: 23]. قال ابن المسيب: لا أحد من أهل الجنة إلا وفي يده ثلاثة أسورة: واحدة من فضة وأخرى من ذهب وأخرى من لؤلؤ. {وسقاهم رَبُّهُمْ} أضيف إليه تعالى للتشريف والتخصيص. وقيل: إن الملائكة يعرضون عليهم الشراب فيأبون قبوله منهم ويقولون: لقد طال أخذنا من الوسائط فإذا هم بكاسات تلاقي أفواههم بغير أكف من غيب إلى عبد {شَرَاباً طَهُوراً} ليس برجس كخمر الدنيا لأن كونها رجساً بالشرع لا بالعقل ولا تكليف ثم، أو لأنه لم يعصر فتمسه الأيدي الوضرة وتدوسه الأقدام الدنسة يقال لأهل الجنة {إِنَّ هَذَا} النعيم {كَانَ لَكُمْ جَزَاءً} لأعمالكم {وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً} محموداً مقبولاً مرضياً عندنا حيث قلتم للمسكين واليتيم والأسير لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً.
{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ القرءان تَنزِيلاً} تكرير الضمير بعد إيقاعه اسماً لإن تأكيد على تأكيد لمعنى اختصاص الله بالتنزيل ليستقر في نفس النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا كان هو المنزل لم يكن تنزيله مفرقاً إلا حكمة وصواباً ومن الحكمة الأمر بالمصابرة {فاصبر لِحُكْمِ رَبِّكَ} عليك بتبليغ الرسالة واحتمال الأذية وتأخير نصرتك على أعدائك من أهل مكة {وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ} من الكفرة للضجر من تأخير الظفر {ءَاثِماً} راكباً لما هوى إثم داعياً لك إليه {أَوْ كَفُوراً} فاعلاً لما هو كفر داعياً لك إليه، لأنهم إما أن يدعوه إلى مساعدتهم على فعل ما هو إثم أو كفر أو غير إثم ولا كفر، فنهى أن يساعدهم على الأولين دون الثالث.
وقيل: الآثم عتبة لأنه كان ركاباً للمآثم والفسوق. والكفور: الوليد لأنه كان غالياً في الكفر والجحود. والظاهر أن المراد كل آثم وكافر أي لا تطع أحدهما، وإذا نهي عن طاعة أحدهما لا بعينه فقد نهى عن طاعتهما معاً ومتفرقاً. ولو كان بالواو لجاز أن يطيع أحدهما لأن الواو للجمع فيكون منهياً عن طاعتهما معاً لا عن طاعة أحدهما، وإذا نهى عن طاعة أحدهما لا بعينه كان عن طاعتهما جميعاً أنهى. وقيل: (أو) بمعنى (ولا) أي ولا تطع آثماً ولا كفوراً {واذكر اسم رَبِّكَ} صلِّ له {بُكْرَةً} صلاة الفجر {وَأَصِيلاً} صلاة الظهر والعصر.
{وَمِنَ اليل فاسجد لَهُ} وبعض الليل فصّل صلاة العشاءين {وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً} أي تهجد له هزيعاً طويلاً من الليل ثلثيه أو نصفه أو ثلثه.
{إِنَّ هَؤُلآء} الكفرة {يُحِبُّونَ العاجلة} يؤثرونها على الآخرة {وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ} قدامهم أو خلف ظهورهم {يَوْماً ثَقِيلاً} شديداً لا يعبئون به وهو القيامة لأن شدائده تثقل على الكفار {نَّحْنُ خلقناهم وَشَدَدْنَا} أحكمنا {أَسْرَهُمْ} خلقهم عن ابن عباس رضي الله عنهما والفراء {وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أمثالهم تَبْدِيلاً} أي إذا شئنا إهلاكهم أهلكناهم وبدلنا أمثالهم في الخلقة ممن يطيع {إِنَّ هذه} السورة {تَذْكِرَةٌ} عظة {فَمَن شَاءَ اتخذ إلى رَبّهِ سَبِيلاً} بالتقرب إليه بالطاعة له واتباع رسوله {وَمَا تَشَاءُونَ} اتخاذ السبيل إلى الله. وبالياء: مكي وشامي وأبو عمرو. ومحل {إِلاَّ أَن يَشَاء الله} النصب على الظرف أي إلا وقت مشيئة الله، وإنما يشاء الله ذلك ممن علم منه اختياره ذلك. وقيل: هو لعموم المشيئة في الطاعة والعصيان والكفر والإيمان فيكون حجة لنا على المعتزلة {إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً} بما يكون منهم من الأحوال {حَكِيماً} مصيباً في الأقوال والأفعال {يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ} وهم المؤمنون {فِى رَحْمَتِهِ} جنته لأنها برحمته تنال وهو حجة على المعتزلة لأنهم يقولون قد شاء أن يدخل كلاً في رحمته لأنه شاء إيمان الكل، والله تعالى أخبر أنه يدخل من يشاء في رحمته وهو الذي علم منه أنه يختار الهدى {والظالمين} الكافرين لأنهم وضعوا العبادة في غير موضعها ونصب بفعل مضمر يفسره {أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} نحو: أوعد وكافأ.